كيف يكون قيام الليل

قيام اللَّيل كلّه)
الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه،
أمّا بعدُ،
فهذا المبحث، معقودٌ لاستقراء نصوصَ الشرع، من أجل رصد الأوقاتَ والأحوالَ والمناسباتِ التي تُشرعُ فيها صلاةُ قيام الليل، التي هي أفضلُ الصّلوات بعد المكتوبة، لأنّ هذه المعرفة ممّا يُعينُ المرء على الاجتهاد في قيام الليل، فكلّما مرَّ وقتٌ من هذه الأوقات الواردة في السّنة المطهرة، أو ظرفٌ أو حالٌ من هذه الأحوال، كان ذلك مُنبّهاً ومذكّراً بما ينبغي فيه من هذه الوظيفة الجليلةِ.
في الحلقة الماضية، تناولنا مسألتين:
أولاهما، عن طبيعة "الليل"، ومناسبته لصلاة القيام، (واللَّيْلَ: زَمَنُ الظُّلْمَةِ مِنْ بَعْدِ الْعِشَاءِ إِلَى الْفَجْرِ)، كما يقول ابن عاشور، (وَقِيَامُ اللَّيْلِ: لَقَبٌ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، مَا عَدَا صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَرَوَاتِبِهِمَا)[1]، وربّما كان الأدقُّ أن يقولَ: (من بعد صلاة العشاء وراتبتِها)، ليتلاءم المعنى مع ما هو مأثور عن ابن مسعود وغيره، في قول الله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشّرح: 7]، أي: (إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ)[2]، وكذلك: إذا فرغتَ (من أمر دُنياك فانصبْ في عمل آخرتِك)[3]. والذي دفع ابنَ عاشور إلى قوله: (مَا عَدَا صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَرَوَاتِبِهِمَا) هو ما ورد من صلاةٍ للقيام بين المغرب والعشاء، وهي مسألة سوف تأتينا لاحقاً، بإذن الله تعالى.
والمسألة الثانية، عرّفنا فيها بأفضل أوقات وأحوال قيام الليل، ألا وهو قيامُ وصلاة داود، الّذي يُعتبرُ القاعدة التي ينبغي أن يفيء إليها كلّ مسلمٍ في تهجّده، ولكن قد تقتضي الأحوالُ الخروجَ عن هذه القاعدة، سواءٌ بالتزام ما هو أكثر مشقّةً، أو بالقيام بما هو أخفُّ، والسّنة المطهرة تشهد لكلّ ذلك، وتقيده بما يستحقه من القيود، وأولى هذه الأحوال التي قد تقتضيها بعضُ الظروف والأحوال: قيامُ الليل كلّه، وحول محوره يدور الكلام في هذه الحلقة.
أولاً: كيف يكون قيام الليل كلّه حالاً من الأحوال؟
فعنوانُ المبحث: قيامُ الليل متى؟ وإحدى إجاباتِ هذا السؤال أن نقول: عند الرّغبة في إقامة الليل كلّه، فكيف تكون إقامة الليل كلّه حالاً من الأحوال التي تحفز مسلماً على إقامة الليل، والحالُ أنّه قد عرف أنّ قيام داود هو القيام المثاليُّ؟
الجوابُ: أنّ هذا قد يحدث لبعض ذوي القابليّات العاليّة، على رأي الفقيه الحنبليّ عبد القادر الجيلانيّ، كما سوف نرى. أوّلاً.
وثانياً، قد يرغبُ أيُّ مسلمٍ في إقامة الليل كلّه، لدى بعض الظروف والابتلاءات التي تمرُّ به، لرؤيته في قيام الليل ملاذاً ومنجى.
ثانياً: ما هو الأصل في قيام الليل كلّه؟
قد يكون الأصلُ في ذلك: ما أخرجه الإمام البخاريُّ في صحيحه،تحت عنوان: (بَابٌ: قِيَامِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اللَّيْلَ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ)، عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أنّه: «كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَفَطَّرَ قَدَمَاهُ»[4].
وروى البخاريُّ كذلك عَنْ زِيَادٍ، قَالَ: (سَمِعْتُ المُغِيرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَقُولُ: إِنْ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيَقُومُ لِيُصَلِّيَ، حَتَّى تَرِمُ قَدَمَاهُ -أَوْ سَاقَاهُ- فَيُقَالُ لَهُ فَيَقُولُ: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»)[5].
قال ابن بطال: (قال المهلَّب: فيه أخذُ الإنسانِ على نفسه بالشِّدَّة فى العبادة، وإن أضرَّ ذلك ببدنه، وذلك له حلالٌ، وله أن يأخذ بالرخصة ويكلِّف نفسه ما عَفَتْ له به وسمحت، إلا أنَّ الأخذ بالشدة أفضل، ألا ترى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا»، فكيف من لم يعلم أنه استحقَّ النار أم لا؟ فمن وُفق للأخذ بالشِّدّة فله فى النّبيِّ -صلّى الله عليه وسلم- أفضل الأسوة. وإنما ألزم الأنبياء والصالحون أنفسهم شدة الخوف، وإن كانوا قد أمِنوا، لعلمهم بعظيم نعم الله عليهم، وأنه ابتدأهم بها قبل استحقاقها، فبذلوا مجهودهم فى شكره تعالى بأكبرَ مما افترض عليهم فاستقلوا ذلك. ولهذا المعنى قال طلق بن حبيب: إنَّ حقوق الله أعظمُ من أن يقوم بها العباد، ونعمُه أكثر من أن تُحصى، ولكن أصبحوا قانتين وأمسَوا تائبين، وهذا كلُّه مفهومٌ من قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28].)[6].
قال ابن حجر: (قِيلَ: أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ هَذَا الْحَدِيثَ؛ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ قِيَامَ جَمِيعِ اللَّيْلِ غَيْرُ مَكْرُوهٍ، وَلَا تُعَارِضُهُ الْأَحَادِيثُ الْآتِيَةُ بِخِلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَهَا بِأَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَكُنْ يُدَاوِمُ عَلَى قِيَامِ جَمِيعِ اللَّيْلِ، بَلْ كَانَ يَقُومُ وَيَنَامُ كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَتْ عَنْهُ عَائِشَةُ أَيْضًا)[7].
ثالثاً: خلاف الفقهاء حول حكم قيام الليل كلّه:
اختلف الفقهاء حول حكم قيام الليل كلّه، إلى أربعة أقوال:
-قول جمهور أئمة المذاهب الفقهيّة الثلاثة: المالكيَّة والشّافعيّة والحنبليّة: أنّ قيامَ اللَّيلِ إن لم يكن على الدّوامِ في جميعِ اللَّيالي، ولم يؤدّ إلى الانتقاص من فريضة الفجر؛ فإنّه سُنّة.
-وقول بعض الحنابلة: أنّ قيام الليل كلّه جائزٌ، ولو كان على الدوام، ولكن ذلك لا يُتاح لكلّ النَّاس.
-وقول الحنفيّة: أنّ إحياء الليل كلّه، إنّما يتحقّق بإحياء بعضه.
-وقول الإمام ابن حزم الظاهريّ: أنّ قيام الليل كلّه، لا يجوز.
فيما يلي نطّلع على نصوص أقوالهم:
أولاً: قول الجمهور:
1/ المذهب المالكيّ:
قال ابن أبي زيد القيروانيّ: قال ابنُ القاسم عن مالك، في (العتبية): (وكره مالك لمن يُحيي الليل كلَّه. قال: ولعله يُصلي الصبح مغلوباً، وفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسوةٌ حسنة، كان يُصلي أدنى من ثلثي الليل ونصفه. قال: وإذا أصابه النَّومُ فليرقد حتى يذهب عنه. ثم رجع فقال: لا بَأْسَ به ما لم يضُرَّ بصلاة الصُّبح. قال: ولا أُحِبُّ لمن يغلب عليه النوم أن يُصلِّي جُلَّ ليلته حتى تأتيه صلاة الصّبح وهو ناعس، وإن كان أنّما يدركه كسلٌ وفتور فلا بَأْسَ بذلك)[8].
وقال الإمام القرافيّ: (وَكَرِهَ مَالِكٌ إِحْيَاءَ اللَّيْلِ كُلِّهِ، اتِّبَاعًا لِلسُّنَّةِ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُوَاظِبُهُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَا اخْتِلَافَ فِي أَنَّ الْكَثِيرَ مِنَ الصَّلَاةِ أَفْضَلُ مِنَ الْقَلِيلِ مَعَ الِابْتِدَاءِ فِي الطُّولِ)[9].
وقال شهاب الدين النّفراوي: (وَقِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ، لِمَنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ: مَكْرُوهٌ اتِّفَاقًا، قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ)[10].
2/ المذهب الشّافعيّ:
يقول الإمام النوويّ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يَقُومَ كُلَّ اللَّيْلِ دَائِمًا، لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ[11]. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَوْمِ الدَّهْرِ غَيْرَ أَيَّامِ النَّهْيِ، فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ عِنْدَنَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ كُلِّهِ دَائِمًا يَضُرُّ الْعَيْنَ وَسَائِرَ الْبَدَنِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَسْتَوْفِي فِي اللَّيْلِ ما فاته مِنْ أَكْلِ النَّهَارِ وَلَا يُمْكِنُهُ نَوْمُ النَّهَارِ إذَا صَلَّى اللَّيْلَ، لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَصَالِحِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ.
هَذَا حُكْمُ قِيَامِ اللَّيْلِ دَائِمًا، فَأَمَّا بَعْضُ اللَّيَالِي فَلَا يُكْرَهُ إحْيَاؤُهَا، فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إذَا دَخَلَ العشر الْأَوَاخِرُ مِنْ رَمَضَانَ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَاتَّفَقَ أَصْحَابُنَا عَلَى إحْيَاءِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ)[12].
3/ جمهور الحنابلة:
قال ابن مفلح: (قَالَ أَحْمَدُ: ... وَلَا يَقُومُ اللَّيْلَ كُلَّهُ)[13]، قال: (وَظَاهِرُ كَلَامِهِ: وَلَا لَيَالِيَ الْعَشْرِ، فَيَكُونُ قَوْلُ عَائِشَةَ: "إنَّهُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَحْيَا اللَّيْلَ" أَيْ كَثِيرًا مِنْهُ، أَوْ أَكْثَرَهُ، وَيَتَوَجَّهُ بِظَاهِرِهِ احْتِمَالٌ، وَتَخْرِيجٌ مِنْ لَيْلَةِ الْعِيدِ، وَيَكُونُ قَوْلُهَا: "مَا عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحِ" أَيْ غَيْرَ الْعَشْرِ، أَوْ لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ مِنْهُ وَاسْتَحَبَّهُ شَيْخُنَا، وَقَالَ: قِيَامُ بَعْضِ اللَّيَالِي كُلِّهَا مِمَّا جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ. وَيُكْرَهُ مُدَاوَمَةُ قِيَامِ اللَّيْلِ، وِفَاقًا لِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِهَذَا اتَّفَقَتْ الشَّافِعِيَّةُ عَلَى اسْتِحْبَابِ لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، ذَكَرَهُ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ)[14].
ثانياً: المذهب الحنفيّ:
تحت عنوان: "مَطْلَبٌ فِي إحْيَاءِ لَيَالِي الْعِيدَيْنِ وَالنِّصْفِ وَعَشْرِ الْحِجَّةِ وَرَمَضَانَ"، وتعليقاً على قول الحصكفيّ: (وَيَكُونُ [أي إحياء هذه اللّيالي] بِكُلِّ عِبَادَةٍ، تَعُمُّ اللَّيْلَ أَوْ أَكْثَرَهُ)، يقول ابنُ عابدين في حاشيته على "الدّر المختار": (نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ، قِيلَ هُوَ الْإِمَامُ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: أَنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِنِصْفِ اللَّيْلِ، وَقَالَ: "مَنْ أَحْيَا نِصْفَ اللَّيْلِ، فَقَدْ أَحْيَا اللَّيْلَ"، وَذَكَرَ فِي "الْحِلْيَةِ" أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ إطْلَاقِ الْأَحَادِيثِ الِاسْتِيعَابُ، لَكِنْ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "مَا أَعْلَمُهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ لَيْلَةً حَتَّى الصَّبَاحَ"، فَيَتَرَجَّحُ إرَادَةُ الْأَكْثَرِ أَوْ النِّصْفِ، لَكِنَّ الْأَكْثَرَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِيقَةِ، مَا لَمْ يَثْبُتْ مَا يَقْتَضِي تَقْدِيمَ النِّصْفِ.اهـ).
ثالثاً: موقف الشيخ عبد القادر الجيلاني الحنبليّ:
يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: (وأمَّا قيام الليل، فعملُ الأقوياء الذين سبقت لهم منه العناية، وأديمت لهم الرعاية، وأحيط على قلوبهم بالتوفيق ونور الجلال ثم الجمال، فجُعل القيام بالليل لهم موهبة وخلعة، فلم يسلبه عنهم مولاهم -عزَّ وجلّ- حتى اللقاء)[15].
قال: (وقد روي عن عثمان بن عفان -رضي الله عنه- أنه كان يُحيى الليلَ بركعةٍ واحدةٍ يختم فيها القرآن وقدمنا ذكره.
وذُكر عن أربعين رجلاً من التَّابعين أنهم كانوا يُحِبُّون الليل كلّه، ويُصلُّون صلاة الغداة بوضوء العشاء الآخرة أربعين سنة)[16].
وفي مقابل مثل هذا القول، يقولُ الشيخ محمد ناصر الدين الألبانيّ: (يُكره إحياءُ الليل كلِّه دائماً أو غالباً؛ لأنَّه خلافُ سنَّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، أمّا ما أورده الشّيخ عبد القادر الجيلانيّ، من أخبارٍ تفيد أنّ بعض التّابعين ظلّ يحيي الليل كلّه أربعين سنةً، فيقول في مثله الشيخ الألباني: (ولا تغترَّ بما روي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه مكث أربعين سنةً يُصلّي الصُّبح بوضوء العشاء؛ فإنه مما لا أصل [له] عنه؛ بل قال العلامة الفيروزأبادي في "الرد على المعترض" (44/1):
"هذا من جملة الأكاذيب الواضحة التي لا يليقُ نسبتُها إلى الإمام، فما في هذا فضيلة تُذكر، وكان الأولى بمثل هذا الإمام أن يأتي بالأفضل، ولا شك أن تجديد الطهارة لكل صلاة أفضل وأتمُّ وأكمل. هذا إن صحَّ أنه سهر طوال الليل أربعين سنة متوالية! وهذا أمر بالمُحال أشبه، وهو من خرافات بعض المتعصبين الجهال، قالوه في أبي حنيفة وغيره، وكل ذلك مكذوب")[17].
رابعاً: رأي ابن حزم:
 يقول ابن حزم: (وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ فَقَدْ صَحَّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَقُمْ لَيْلَةً قَطُّ حَتَّى الصَّبَاحِ)، واستدلّ ابنُ حزم على ذلك بما رواه بسنده، (عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى صَلَاةُ دَاوُد كَانَ يَرْقُدُ شَطْرَ اللَّيْلِ، ثُمَّ يَقُومُ ثُمَّ يَرْقُدُ آخِرَهُ ثُمَّ يَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ بَعْدَ شَطْرِهِ». ثمّ قال: (فَإِذْ هَذَا أَحَبُّ الصَّلَاةِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا فَهُوَ دُونَ هَذَا بِلَا شَكٍّ؛ فَإِذَا كَانَ دُونَ هَذَا فَهُوَ ضَائِعٌ لَا أَجْرَ فِيهِ؛ فَهُوَ تَكَلُّفٌ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّكَلُّفِ)، ثم قال: (وَقَدْ مَنَعَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ كُلِّهِ: سَلْمَانُ، وَمُعَاذٌ، وَغَيْرُهُمَا)[18].
خلاصة:
الّذي نخلص إليه من هذا المبحث: أنّ مذهب الجمهور في هذه المسألة هو الطريق الوسط العادل، فهو يؤكد على كون قيام داود، هو السُّنّة المؤكّدة، في صلاة الليل، لكنّه يفتح البابَ للرّاغبين في إحياء الليل كلّه، على أن لا يجعلوه نظاماً يستديمونه، بل ملجأً يلجؤون إليه في مواجهة بعض الابتلاءات، أو من أجل الاستغراق في تلاوة القرآن وختمه ذات ليلةٍ، أو بعض الليالي، مع مراعاة أن لا يؤديَ ذلك إلى الجور على الفريضة.
وبناءً على ذلك يكون إحياء الليل كلّه، أحد الأوقات أو الأحوال والمناسبات التي يُتاح لمن رغب فيه، أن يلتزم به، ويلتزمَ بقيوده.
المراجع
[1] التحرير والتنوير (29/ 258).
[2] تفسير ابن كثير ت سلامة (8/ 433).
[3] تفسير العز بن عبد السلام (3/ 465).
[4] صحيح البخاري (2/ 50).
[5] رواه البخاري (1130) ومسلم (2819).
[6] شرح صحيح البخارى لابن بطال (3/ 121).
[7] فتح الباري لابن حجر (3/ 16).
[8] النّوادر والزّيادات على ما في المدونة من غيرها من الأمهات، لابن أبي زيد القيرونيّ: (1/ 526).
[9] الذخيرة للقرافي (2/ 407).
[10] الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني (1/ 198).
[11] وهو حديث أنس، الذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: «لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي»، رواه مسلم (1401).
[12] المجموع شرح المهذب (4/ 44).
[13] الفروع وتصحيح الفروع (2/ 392، 393).
[14] الفروع وتصحيح الفروع (2/ 392، 393).
[15] الغنية لطالبي طريق الحق (2/ 151).
[16] الدر المختار وحاشية ابن عابدين (رد المحتار) (2/ 25).
[17] أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (2/ 531).
[18] المُحلى بالآثار (2/ 98، 99).
مشاركة على
    • التعليق بإستخدام حساب جوجل
      تعليقات الفيسبوك

    0 التعليقات :

    إرسال تعليق

    إخترناها لك
    ×