خديجة بنت خويلد أم المؤمنين رضي الله عنها




1 *** اسمها ونسبها:

خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب القرشية الأسدية.

كانت تدعى قبل البعثة الطاهرة، وهي أشرف نساء قريش نسباً، فهي سيدة نساء قريش.

2 *** إسلامها:

كانت خديجة - رضي الله عنها - أول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من النساء والرجال وهذا بإجماع المسلمين.

قال ابن إسحق كانت خديجة أول من آمنت بالله ورسوله، وصدقت ما جاء من عند الله - عز وجل -، وآزرته على أمره، فخفف الله بذلك عن رسوله، فكان لا يسمع شيئاً يكرهه من رد عليه، وتكذيب له، فيحزنه ذلك إلا فرج الله عنه بها، إذا رجع إليها تثبته وتخفف عليه وتصدقه وتهون عليه أمر الناس حتى ماتت - رضي الله عنها -.

موقف رائع من مواقفها:

لما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - في غار حراء جاءه الملك، فقال له: ((اقرأ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أنا بقارئ وكررها ثلاثاً في كل مرة يغطه حتى يبلغ منه الجهد، ثم قال له: اقرأ باسم ربك... الخ، ثم عاد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى زوجته خديجة يرجف فؤاده، فدخل عليها، وهو يقول: زملوني، زملوني، فزملته حتى ذهب عنه الروع، وأخبرها - صلى الله عليه وسلم - بالخبر وقال: لقد خشيت على نفسي، فقالت له: كلا والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الدهر))

إنه موقف الزوجة الوفية، الحصيفة الذكية، التي تعرف فضل زوجها، وتستدل بمكارم أخلاقه وفضله على عظيم عناية الله به، وعلى المستقبل العظيم الذي ينتظره.

جهاد ومؤازرة:

وقفت الزوجة الحنون، والرفيقة العطوف بجانب زوجها المختار - صلى الله عليه وسلم - تساعده وتشد عضده، وتعينه على احتمال الشدائد والمصائب، تدفع من مالها لنصرته، ومن حنانها وعطفها لمواساته وتسليته، ومن أبرز مواقفها - رضي الله عنها -: موقفها حينما أعلنت قريش حرباً مدنية على بني هاشم وبني عبد المطلب، وحاصروهم في شِعْب أبي طالب، وسجلت مقاطعتها في صحيفة علقت بداخل الكعبة.

ولم تتردد خديجة - رضي الله عنها - في الخروج مع زوجها إلى الشعب المحاصر، وتحملت المشاق والمصاعب في سبيل إرضاء الله ثم إرضاء زوجها، ومساندة زوجها وبنيه، وفَضلت ضيق الحياة وخشونتها بجانب زوجها على رغد العيش، وطيب النعمة.

فنعم الزوج كانت، ونعم النصير لدين الله - عز وجل - ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجزاها الله عن المسلمين خير الجزاء.

3 *** أزواجها قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -:

تزوجت قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - مرتين:

زوجها الأول هو: عتيق بن عائذ المخزومي، فبقيت معه حتى وفاته، وأنجبت منه: عبد العزى وهند.

زوجها الثاني هو: أبو هالة هند بن زرارة التميمي، وأنجبت منه: هند والطاهر وهالة، وبعد وفاته كان عمرها خمسة وعشرين عاماً، ولم تتزوج حتى بلغت أربعين سنة - رضي الله عنها - وأرضاها.

4 *** زواجها بالنبي - صلى الله عليه وسلم -:

ثم تزوجت النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة وعمره خمسة وعشرون عاماً، ومن حبه لها لم يتزوج عليها في حياتها.

فَصْلٌ فِي أَزْوَاجِهِ - صلى الله عليه وسلم -:

1- [خَدِيجَة ُ]:

أُولَاهُنّ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد الْقُرَشِيّةُ الْأَسَدِيّةُ تَزَوّجَهَا قَبْلَ النّبُوّةِ وَلَهَا أَرْبَعُونَ سَنَةً وَلَمْ يَتَزَوّجْ عَلَيْهَا حَتّى مَاتَتْ وَأَوْلَادُهُ كُلّهُمْ مِنْهَا إلّا إبْرَاهِيمَ وَهِيَ الّتِي آزَرَتْهُ عَلَى النّبُوّةِ وَجَاهَدَتْ مَعَهُ وَوَاسَتْهُ بِنَفْسِهَا وَمَالِهَا وَأَرْسَلَ اللّهُ إلَيْهَا السّلَامَ مَعَ جِبْرِيلَ وَهَذِهِ خَاصّةً لَا تُعْرَفُ لِاِمْرَأَةٍ سِوَاهَا وَمَاتَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ.

2- [سَوْدَةُ]:

ثُمّ تَزَوّجَ بَعْدَ مَوْتِهَا بِأَيّامٍ سَوْدَةَ بِنْتَ زَمْعَةَ الْقُرَشِيّةَ وَهِيَ الّتِي وَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ.

3- [عَائِشَةُ]:

ثُمّ تَزَوّجَ بَعْدَهَا أُمّ عَبْدِ اللّهِ عَائِشَةَ الصّدّيقَةَ بِنْتَ الصّدّيق الْمُبَرّأَةَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، حَبِيبَةَ رَسُولِ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم -، تَزَوّجَ بِهَا فِي السنة الْأُولَى مِنْ الْهِجْرَةِ، وَعُمْرُهَا تِسْعُ سِنِينَ، وَلَمْ يَتَزَوّجْ بِكْرًا غَيْرَهَا، وَكَانَتْ أَحَبّ الْخَلْقِ إلَيْهِ وَنَزَلَ عُذْرُهَا مِنْ السّمَاءِ وَاتّفَقَتْ الْأُمّةُ عَلَى كُفْرِ قَاذِفِهَا وَهِيَ أَفْقَهُ نِسَائِهِ وَأَعْلَمُهُنّ بَلْ أَفْقَهُ نِسَاءِ الْأُمّةِ وَأَعْلَمُهُنّ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَكَانَ الْأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْجِعُونَ إلَى قَوْلِهَا وَيَسْتَفْتُونَهَا.

4- [حَفْصَةُ]:

ثُمّ تَزَوّجَ حَفْصَةَ بِنْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ - رضي الله عنه - وَذَكَرَ أَبُو دَاوُد أَنّهُ طَلّقَهَا ثُمّ رَاجَعَهَا.

5- [زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَة]:

ثُمّ تَزَوّج زَيْنَبَ بِنْتَ خُزَيْمَة بْنِ الْحَارِثِ الْقَيْسِيّةِ مِنْ بَنِي هِلَالِ بْنِ عَامِرٍ وَتُوُفّيَتْ عِنْدَهُ بَعْدَ ضَمّهِ لَهَا بِشَهْرَيْنِ.

6- [أُمّ سَلَمَةَ]:

ثُمّ تَزَوّجَ أُمّ سَلَمَةَ هِنْدَ بِنْتَ أَبِي أُمّيّةَ الْقُرَشِيّةَ الْمَخْزُومِيّة َ، وَهِيَ آخِرُ نِسَائِهِ مَوْتًاً، وَقِيلَ: آخِرُهُنّ مَوْتًا صَفِيّةُ.

7- [زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ]:

ثُمّ تَزَوّجَ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَة وَهِيَ ابْنَةُ عَمّتِهِ أُمَيْمَةَ وَفِيهَا نَزَلَ قَوْلُهُ - تعالى -: (فَلَمّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوّجْنَاكَهَا) [الْأَحْزَابُ 37] وَبِذَلِكَ كَانَتْ تَفْتَخِرُ عَلَى نِسَاءِ النّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - وَتَقُولُ زَوّجَكُنّ أَهَالِيكُنّ وَزَوّجَنِي اللّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، وَمِنْ خَوَاصّهَا أَنّ اللّهَ - سبحانه وتعالى - كَانَ هُوَ وَلِيّهَا الّذِي زَوّجَهَا لِرَسُولِهِ مِنْ فَوْقِ سَمَوَاتِهِ وَتُوُفّيَتْ فِي أَوّلِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطّابِ وَكَانَتْ أَوّلًا عِنْدَ زَيْدِبْنِ حَارِثَة وَكَانَ رَسُولُ اللّهِ - صلى الله عليه وسلم - تَبَنّاهُ فَلَمّا طَلّقَهَا زَيْدٌ زَوّجَهُ اللّهُ - تعالى -إيّاهَا لِتَتَأَسّى بِهِ أُمّتُهُ فِي نِكَاحِ أَزْوَاجِ مَنْ تَبَنّوْهُ.

8- [جُويْريَة]:

وَتَزَوّجَ - صلى الله عليه وسلم - جُويْريَة بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارٍ المُصْطَلِقِيّة، وَكَانَتْ مِنْ بَنِي الْمُصْطَلِق، فَجَاءَتْهُ تَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى كِتَابَتِهَا فَأَدّى عَنْهَا كِتَابَتَهَا وَتَزَوّجَهَا.

9- [أُمّ حَبِيبَة]:

ثُمّ تَزَوّجَ أُمّ حَبِيبَةَ وَاسْمُهَا رَمْلَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ صَخْرِ بْنِ حَرْبٍ الْقُرَشِيّةُ الْأُمَوِيّةُ. وَقِيلَ اسْمُهَا هِنْدُ تَزَوّجَهَا وَهِيَ بِبِلَادِ الْحَبَشَةِ مُهَاجِرَةً وَأَصْدَقَهَا عَنْهُ النّجَاشِيّ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ وَسِيقَتْ إلَيْهِ مِنْ هُنَاكَ وَمَاتَتْ فِي أَيّامِ أَخِيهَا مُعَاوِيَةَ. هَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ الْمُتَوَاتَرُ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ وَالتّوَارِيخِ وَهُوَ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ نِكَاحِهِ لِخَدِيجَةَ بِمَكّةَ وَلِحَفْصَةَ بِالْمَدِينَةِ وَلِصَفِيّةَ بَعْدَ خَيْبَر َ.

10- [صَفِيّةُ]:

وَتَزَوّجَ - صلى الله عليه وسلم - صَفِيّةَ بِنْتَ حُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ سَيّدِ بَنِي النّضِيرِ مِنْ وَلَدِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ أَخِي مُوسَى - عليهما السلام -، فَهِيَ ابْنَةُ نَبِيّ، وَزَوْجَةُ نَبِيّ، وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ.

11- [مَيْمُونَةُ]:

ثُمّ تَزَوّجَ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ الْهِلَالِيّةَ وَهِيَ آخِرُ مَنْ تَزَوّجَ بِهَا تَزَوّجَهَا بِمَكّةَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ بَعْدَ أَنْ حَلّ مِنْهَا عَلَى الصّحِيحِ.

فَهَؤُلَاءِ نِسَاؤُهُ الْمَعْرُوفَاتُ اللّاتِي دَخَلَ بِهِنّ، وَأَمّا مَنْ خَطَبَهَا وَلَمْ يَتَزَوّجْهَا، وَمَنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ وَلَمْ يَتَزَوّجْهَا، فَنَحْوُ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُنّ ثَلَاثُونَ امْرَأَةً، وَأَهْلُ الْعِلْمِ بِسِيرَتِهِ وَأَحْوَالِهِ - صلى الله عليه وسلم - لَا يَعْرِفُونَ هَذَا بَلْ يُنْكِرُونَهُ وَالْمَعْرُوفُ عِنْدَهُمْ، أَنّهُ بَعَثَ إلَى الجونية لِيَتَزَوّجَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا لِيَخْطُبَهَا فَاسْتَعَاذَتْ مِنْهُ فَأَعَاذَهَا وَلَمْ يَتَزَوّجْهَا.

وَكَذَلِكَ الْكَلْبِيّةُ، وَكَذَلِكَ الّتِي رَأَى بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَاَلّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ فَزَوّجَهَا غَيْرَهُ عَلَى سُوَرٍ مِنْ الْقُرْآنِ، هَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ وَاَللّهُ أَعْلَمُ.

وَلَا خِلَافَ أَنّهُ - صلى الله عليه وسلم - تُوُفّيَ عَنْ تِسْعٍ، وَكَانَ يُقَسّمُ مِنْهُنّ لِثَمَانٍ، عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ وَزَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ وَأُمّ سَلَمَةَ وَصَفِيّةُ وَأُمّ حَبِيبَةَ وَمَيْمُونَةُ وَسَوْدَةُ وَجُوَيْرِيَة، وَأَوّلُ نِسَائِهِ لُحُوقًا بِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ - صلى الله عليه وسلم - زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ سَنَةَ عِشْرِينَ، وَآخِرُهُنّ مَوْتًا أُمّ سَلَمَةَ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَسِتّينَ فِي خِلَافَةِ يَزِيدَ وَاَللّهُ أَعْلَمُ. [زاد المعاد 1/ 102، السيرة النبوية لابن كثير 4/594].

سبب تعدد الزواج النبوي:

ومن نظر إلى حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم - عرف جيداً أن زواجه بهذا العدد الكثير من النساء في أواخر عمره بعد أن قضى ما يقارب ثلاثين عاماً من ريعان شبابه، وأجود أيامه مقتصراً على وجه واحدة شبه عجوز خديجة، ثم سودة، عرف أن هذا الزواج لم يكن لأجل أنه وجد بغتة في نفسه قوة عارمة من الشبق، لا يصبر معها إلا بمثل هذا العدد الكثير من النساء، بل كانت هناك أغراض أخرى أجلُّ وأعظمُ من الغرض الذي يحققه عامة الزواج.

فاتجاه الرسول -صلى الله عليه وسل- إلى مصاهرة أبي بكر وعمر بزواجه بعائشة وحفصة، وكذلك تزوجيه ابنته فاطمة بعلي بن أبي طالب، وتزويجه ابنتيه رقية ثم أم كلثوم بعثمان بن عفان - رضي الله عنهم - يشير إلى أنه يريد من وراء ذلك توثيق الصلاة بالرجال الأربعة، الذي عرف بلاءهم وفداءهم للإسلام في الأزمات التي مرت به، وشاء الله أن يجتازها بسلام.

وكان من تقاليد العرب الاحترام للمصاهرة، فقد كان الصهر عندهم باباً من أبواب التقرب بين البطون المختلفة، وكانوا يرون مناوأة ومحاربة الأصهار، سبة وعاراً على أنفسهم، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزواج عدة من أمهات المؤمنين أن يكسر عداء القبائل للإسلام، ويطفئ حدة بغضائها، وكان أبو سفيان لم يواجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأي محاربة بعد زواجه بابنته أم حبيبة، وكذلك لا نرى من قبيلتي بني المصطلق وبني النضير أي استفزاز وعداء بعد زواجه بجويرية وصفية؛ بل كانت جويرية أعظم النساء بركة على قومها، فقد أطلق الصحابة أسر مائة بيت من قومها حين تزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقالوا: أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يخفي ما لهذا المنُّ من الأثر البالغ في النفوس.

وإذن فلم يكن للنبي - صلى الله عليه وسلم - سبيل إلا أن يختار من النساء المختلفة الأعمار والمواهب ما يكفي لهذا الغرض، فيزكيهن ويربيهن، ويعلمهن الشرائع والأحكام، ويثقفهن بثقافة الإسلام حتى يعدهن لتربية البدويات والحضريات، العجائر منهن والشابات، فيكفينه مؤنة التبليغ في النساء.

وقد كان لأمهات المؤمنين فضل كبير في نقل أحواله - صلى الله عليه وسلم - المنزلية للناس، خصوصاً من طالت حياته منهن كعائشة، فإنها روت كثيراً من أفعاله وأقواله.

وهناك نكاح واحد كان لنقض تقليد جاهلي متأصل، وهي قاعدة التبني.

وكان للمتبني عند العرب في الجاهلية جميع الحرمات والحقوق التي كانت للابن الحقيقي سواء بسواء. وكانت قد تأصلت تلك القاعدة في القلوب، بحيث لم يكن محوها سهلاً، لكن كانت تلك القاعدة تعارض معارضة شديدة للأسس والمبادئ التي قررها الإسلام في النكاح والطلاق والميراث وغير ذلك من المعاملات، وكانت تلك القاعدة تجلب كثيراً من المفاسد والفواحش التي جاء الإسلام؛ ليمحوها عنالمجتمع.

وقدر الله أن يكون هدم تلك القاعدة على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبذاته الشريفة، وكانت ابنة عمته زينب بنت جحش، وكانت تحت زيد بن حارثة الذي كان يدعى زيد بن محمد، ولم يكن بينهما توافق، حتى هم زيد بطلاقها، وفاتح بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد عرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - إما بإشارات الظروف، وإما بإخبار الله - عز وجل - إياه، أن زيداً إن طلقها فسيؤمر هو - صلى الله عليه وسلم - أن يتزوجها بعد انقضاء عدتها، وكان ذلك في ظروف حرجة من تألب المشركين على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين، وكان يخاف إذا وقع هذا الزواج دسيسة للمنافقين والمشركين واليهود، وما يثيرونه من الوساوس والخرافات ضده، وما يكون له من الأثر السيئ في نفوس ضعفاء المسلمين، فلما فاتح زيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإرادته طلاق زينب أمره بأن يمسكها ولا يطلقها، وذلك لئلا تأتي مرحلة هذا الزواج في تلك الظروف الصعبة.

ولم يرض الله من رسوله - صلى الله عليه وسلم - هذا التردد والخوف حتى عاتبه الله عليه بقوله: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ) [الأحزاب 37].

وأخيراً طلقها زيد، وتزوجها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيام فرض الحصار على بني قريظة بعد أن انقضت عدتها.

وكان الله قد أوجب عليه هذا النكاح، ولم يترك له خياراً ولا مجالاً، حتى تولى الله ذلك النكاح بنفسه يقول: (فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا) [الأحزاب 37]، وذلك ليهدم قاعدة التبني فعلاً كما هدمها قولاً: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ) [الأحزاب 5]، (مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ) [الأحزاب 40].

وقد أثار المنافقون وساوس كثيرة، وقاموا بدعايات كاذبة واسعة حول هذا النكاح، أثر بعضها في ضعفاء المسلمين، لاسيما أن زينب كانت خامسة أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يكن يعرف المسلمون حل الزواج بأكثر من أربع نسوة وأن زيداً كان يعتبر ابناً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والزواج بزوجة الابن كان من أغلظ الفواحش، وقد أنزل الله في سورة الأحزاب حول الموضوعين ما شفى وكفى، وعلم الصحابة أن التبني ليس له أثر عند الإسلام، وأن الله - تعالى -وسع لرسوله - صلى الله عليه وسلم - في الزواج ما لم يوسع لغيره، لأغراضه النبيلة الممتازة.

هذا وكانت عشرته - صلى الله عليه وسلم - مع أمهات المؤمنين في غاية الشرف والنبل والسمو والحسن، كما كن في أعلى درجة من الشرف والقناعة والصبر والتواضع والخدمة والقيام بحقوق الزواج، مع أنه كان في شظف من العيش لا يطيقه أحد.

ومع هذا الشظف والضيق لم يصدر منهن ما يوجب العتاب إلا مرة واحدة - حسب مقتضى البشرية، وليكون سببا لتشريع الأحكام، فأنزل الله آية التخيير: (أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمً) [الأحزاب 28، 29] وكان من شرفهن ونبلهن أنهن آثرن الله ورسوله، ولم تمل واحدة منهن إلى اختيار الدنيا.

تعدد الزوجات وأهميته:

وأما تعدد الزوجات وأهميته في حياة الأمة، فلا حاجة إلى البحث في موضوعه؛ لأن من نظر في حياة الدول الأوروبية، التي تدين هذا المبدأ وتنكره، ونظر إلى ما يقاسون من الشقاوة والمرارة، وما يأتون من الفضائح والجرائم الشنيعة، وما يواجهون من البلايا والقلاقل لانحرافهم عن هذا المبدأ، كفى له ذلك عن البحث والاستدلال، فحياتهم أصدق شاهد على عدالة هذا المبدأ، وإن في ذلك لعبرة لأولى الأبصار.
6 *** أولادها:

كل أولاد النبي - صلى الله عليه وسلم - من خديجة ما عدا إبراهيم فإنه من مارية القبطية المصرية، التي أهداها المقوقس صاحب إسكندرية، وقيل أنه أعتقها قبل أن يموت - صلى الله عليه وسلم -.

قال ابن كثير - رحمه الله -: " لا خلاف أن جميع أولاده من خديجة بنت خويلد، سوى إبراهيم فمن مارية بنت شمعون القبطية.

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان أكبر ولد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القاسم وبه يُكنى، ثم زينب، ثم عبد الله، ثم أم كلثوم، ثم فاطمة، ثم رقية، وقيل غير ذلك في الترتيب.

فمات القاسم، وهو أول ميت من ولده بمكة، ثم مات عبد الله، فقال العاص بن وائل السهمي: قد انقطع نسله فهو أبتر، وكانت قريش إذا ولد للرجل ثم أبطأ عليه الولد من بعده قالوا: هذا الأبتر، فأنزل الله - عز وجل -: (إنا أعطيناك الكوثر * فصل لربك وانحر * إن شانئك هو الأبتر) أي: مبغضك هو الأبتر من كل خير.

ثم ولدت له مارية بالمدينة إبراهيم في ذي الحجة سنة ثمان من الهجرة، فمات ابن ثمانية عشر شهراً.

وكل الذكور ماتوا وهم صغار يرضعون؛ لحكمة بالغة.

وماتت بناته رقية وزينب وأم كلثوم في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وماتت فاطمة - رضي الله عنها - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر تقريباً.

7 *** وفاؤها:

لم يذكر التأريخ الإنساني على مراحله المختلفة امرأة فاضلة وفت لزوجها، وأدت واجباتها تجاهه مثل خديجة - رضي الله عنها -، فقد أعطت المال والجهد والحنان والحب والمشورة الصادقة الصائبة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، خلال مواقفها معه أثناء تبليغ رسالة ربه حتى توفاها الله - تعالى -وهو راض عنها، فرضي الله عنها وأرضاها.

8 *** فضلها:

عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((أفضل نساء أهل الجنة: خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون)) [رواه أحمد والطبراني وغيرهما، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم 1135].

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله: ((هذه خديجة قد أتت معها إناء فيه إدام وطعام، فإذا أتتك فأقرأ - عليها السلام - من ربها ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب )) [متفق عليه].

9 *** وفاتها - رضي الله عنها -:

توفيت خديجة قبل الهجرة بثلاث سنين، وهذا هو الأصح.

وكانت يوم توفيت بنت خمس وستين سنة، ودفنت في الحجون، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - حفرتها، ولم تكن شرعت الصلاة على الجنائز [يراجع ذلك في الإصابة والاستيعاب والطبقات وغيرها].

10 *** وفاء النبي - صلى الله عليه وسلم - لخديجة بعد موتها:

قد أثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - ما لم يثن على غيرها، فتقول عائشة - رضي الله عنها -: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يكاد يخرج من البيت حتى يذكر خديجة، فيحسن الثناء عليها، فذكرها يوماً من الأيام فأخذتني الغيرة، فقلت: هل كانت إلا عجوزاً، قد أبدلك الله خيراً منها، فغضب ثم قال: (( لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، آمنتْ بي إذْ كفرَ الناس، وصدَّقتني إذ كذّبَني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء، قالت عائشة: فقلتْ في نفسي: لا أذكرها بعدها بسبّةٍ أبداً)).

وهذا آخر ما في الموضوع، والله أسأل أن يجزل لنا المثوبة والأجر، وأن يغفر لنا الزلل والوزر، إنه على كل شيء قدير.

إِنَّ الْحَـــــــمْدَ لِلهِ تَعَالَى، نَحْمَدُهُ وَ نَسْتَعِينُ بِهِ وَ نَسْتَهْدِيهِ وَ نَسْــتَنْصِرُه

وَ نَــــعُوذُ بِالْلهِ تَعَالَى مِنْ شُــــرُورِ أَنْفُسِنَا وَ مِنْ سَيِّئَــــاتِ أَعْمَالِنَا

مَنْ يَـــهْدِهِ الْلهُ تَعَالَى فَلَا مُضِــــلَّ لَهُ، وَ مَنْ يُـضْلِلْ فَلَا هَــــادِىَ لَه

وَ أَشْــــــــــهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا الْلهُ وَحْــــــدَهُ لَا شَــــــرِيكَ لَه
مشاركة على
    • التعليق بإستخدام حساب جوجل
      تعليقات الفيسبوك

    0 التعليقات :

    إرسال تعليق

    إخترناها لك
    ×